ندى وشجرة العصافير: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


 
 ندى وشجرة العصافير

اعتادت ندي أن تصحو مبكرة علي تغريد جميل يداعب خيالها، وينشط بدنها، ويشرح صدرها فتصحو سعيدة منتعشة، تفتح نافذتها، وتلقي بالتحية علي شجرة العصافير الكائنة أمام نافذة حجرتها، وحين تقع عينيها علي العصافير الجميلة والكثيرة، وهي تتقافز لاعبة مغردة تكاد تدمع عينيها من البهجة، وتقول لها 
  اشكرك أيتها العصافير الرائعة، وأشكر الله الذي وهبك هذا التغريد الفريد وحطك فوق شجرتي حتي استيقظ مبكرة وأصلي الفجر حاضرا، وأبدأ يومي مبكرة، دون أن يصيبني الملل، أو التعب
أما حين تذهب العصافير سعيا وراء رزقها، وتترك الشجرة خاوية من التغريد والزقزقة، فكانت ندي تحدث نفسها قائلة 
  كم أشعر بفقدك أيتها العصافير كم أتمناك الآن وقت القيلولة تهدهدين أعصابي بتغريد وزقزقة حتي تغفو عيني قليلا   يا تري أين أنت الآن  ؟ ولمن تغنين ؟
 هداها تفكيرها أن تأخذ عصفورا من تلك العصافير الجميلة يكون لها وحدها، يغني لها في كل الأوقات، وتستمتع بالألحان البديعة في كل حين، ونقذت ما فكرت فيه، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل نصحت كل صديقاتها بأن يفعلن مثلها، وأخذت تشرح لهن فوائد أن يكون لكل منهن عصفورا مغردا يغني لها وحدها فيزداد النشاط، والتفوق مقابل أن توفر له الغذاء وتريحه من عناء السعي طوال النهار من أجل الطعام
اقتنعت الصديقات بأفكار ندي واستعدت كل واحدة بقفص قيّم تفننت في تجميله وعند آذان المغرب تعود العصافير من رحلة الطيران، والتنقل من زهرة لزهرة، ومن غصن لغصن في الحدائق، والحقول فرحانة كعادتها تصلي لربها شكرا وتسبحه حمدا علي نعمة الطيران والعلو، ثم تخلد العصافير للنوم اللذيذ المبكر
في هذا الوقت الساكن امتدت أياد صغيرة كثيرة إلي العش الهادي وضمت كل واحدة عصفورا دسته في قفص وأغلقت بابه، وذهبت كل واحدة بعصفورها إلي حجرتها، تماما كما فعلت ندي التي اختارت له مكانا مواجها لسريرها حتي يكون أول شيء تفتح عليه عينيها 
لم تصحو ندي في اليوم التالي مبكرة، وحينما نظرت إلي العصفور في قفصها وجدته حزينا منكمشا، وحين فتحت نافذتها وجدت شجرتها بلا سعادة ولا زقزقة فقد أحست باقي العصافير بالخطر، وعدم الآمان في هذا المكان، فهربت منه      
وتحيرت ندي من أمر العصفور  الحزين رغم قفصه الغالي، ومكانه الدافىء، وأمضت اليوم متسائلة ولم تلق إجابة تريحها، ونامت حزينة مثل عصفورها الحزين فرأت نفسها، في بستان جميل مليء بالأشجار والأزهار وجداول المياه، لكنه كئيب رغم هذا الجمال، الأشجار ذابله، الأزهار مائله، والمياه راكدة، ورأت رجلا مهيبا يجلس حزينا فسألته 
  ما سر حزنك وأنت في هذه الجنة البديعة ؟
قال الرجل
  وهل هناك جمال بلا روح    إن روح هذا المكان هجرته فمات كل شيء فيه
  لم أفهم ماذا تقصد بأن الروح هجرته؟
  روح هذا المكان هي العصافير التي تجعل له نغما، وتدب فيه الحياة، فقد كانت العصافير تأتيه من كل صوب، تلعب بين أوراق الأشجار فتسقط بأرجلها الورق الجاف، وتنقل حبوب اللقاح من مكان إلي مكان فيتكاثر النبات وتتفتح الأزهار، وتلتقط بعض الثمار التى يخلص النبات من الشوائب، وتعود إلي أعشاشها بعد أن تترك كل شيء منتعشا
تساءلت ندي في دهشة
  وماذا حدث اليوم ؟ لماذا لم تأت العصافير وتفعل ما كانت تفعل كل يوم ؟
  يقولون إن بعض الأولاد الأشقياء أمسكوا العصافير، وحبسوها في أقفاص ليستمتعوا بها وحدهم من فرط الأنانية، متناسين أن العصافير مخلوق حر خلقه الله لكى يكون طليقا، ولا يرضي بديلا قفصا من ذهب ووعاء من فضة
  لكنهم لم يمسكوا كل العصافير فأين باقي العصافير ؟
  باقي العصافير حزينة من أجل العصافير الحبيسة، ثم إنها خائفة علي نفسها هي الأخري أن يصيبها ما أصاب إخوتها لذلك قررت الإضراب  
أفاقت ندي علي صوصوة ضعيفة فقالت للرجل
   انصت    أسمع صوصوة
فلم تجد ندي الرجل ولا الحديقة بل وجدت نفسها في حجرتها أمام عصفور ضعيف يصدر صوتا ضعيفا رافضا ما أمامه من طعام، ورن في أذنها صوت الرجل الوقور
  العصافير مخلوق حر خلقه الله لكى يكون طليقا
دمعت عيني ندي واسرعت بفتح باب القفص، وأخرجت العصفور وقالت له
  أنا آسفة أيها العصفور الطيب، لم أكن أفهم أن الحرية هي الحياة لك والسعادة لي، لقد تعلمت أن الانسان الذي يحاول أن يحصل علي أكثر من حقه يفقد كل شيء، وحمدا لله أن الوقت لم يفت بعد، وتستطيع أن تسترد بعض صحتك التي فقدتها أثناء الحبس في سماء الحرية، والآن هيا إلي الطيران من جديد
اعتذرت ندي للعصفور وأطلقته ثم مرت علي صديقاتها واحدة واحدة تحكي لها قصة البستان المهجور، فتسرع الصديقة بإطلاق عصفورها بعد أن تعتذر له
صباح اليوم التالي استيقظت ندي مبكرة علي تغريد جميل يداعب خيالها، وينشط بدنها، ويشرح صدرها، فحمدت الله أن عادت الحياة إلي شجرتها التي أطلقت عليها شجرة العصافير
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نسعد بتعليقاتكم.. نادية كيلاني